top of page
feature-image-1024x683.jpg

أين نشعر كسوريين أن «البيت بيتنا»؟

لا أرقام بريدية ترشدك إلى البيوت في شوارع تلك المدن، الشوارع التي سُميّت بحسب ذاكرة سكانها، متجاهلين اللوحات الزرقاء التي تحمل اسم شخص ما أو حدث تاريخي معيّن. هكذا هي بيوت السوريين في مدنها وأريافها المختلفة، عنوانها البريدي مقابل دكان أبو أحمد أو بقالية الشام، أو مقابل تقاطع ما في مدخل حديدي أخضر تعلوه لوحة طبيب قلبية. لكن الجميع يجد البيت أخيراً ليُستقبل بعبارة: «تفضّل! البيت بيتك».

تفاصيل لا تفهمها معظم المجتمعات الأوروبية المستقبلة للسوريين اليوم، وتشكّل لهم صدمة فكرة عدم وجود صناديق بريدية مرقمّة في ذلك البلد، وعدم استعمال نظام تحديد المواقع الجغرافية والخرائط إلا تلك المرسومة في ذاكرة السكان المكانيّة.

تلك التفاصيل التي نستمر بروايتها بحماس وحرقة في اغترابنا، باحثين عن معنى لبيوتنا الجديدة ذات الأرقام المرتبة، والتي ننسى تفاصيلها وعنوانها أحياناً، في حين لم ننسَ بعد رقم هاتفنا الأرضي في سوريا.

مفارقة تدعونا للتساؤل: ما هو مفهوم البيت «Home»؟ وهل يحمل جميع السوريين الذاكرة نفسها لبيته؟ هل تختلف المفاهيم باختلاف البيت ومكانه أم أنها ذاتها؟ وهل يزول ذلك المفهوم بدمار المكان ضمن السياق السوري أم يتحول أملاً بالعودة والبناء؟ أم أنه يتحول إلى حنين يتعثر معه تقبّل حياتنا والعمل على بناء بيت جديد؟

في هذا السياق، قمنا كأفراد سوريين بالتعاون مع مؤسسة Geurilla Architects، بورشة عمل تحت عنوان Retracing Home، في مدينتي برلين وفيينّا، بحثاً عن إجابات لمعنى «البيت» للقادمين الجدد. والمفارقة أننا عجزنا عن تعريب كلمة «Home»، بالرغم من كل المحاولات والنقاشات التي دارت.

متى

١٣ ١١ ٢٠١٧

image2-1024x683.jpg

فيما خلَص آخرون إلى أهمية الذاكرة المكانية للمدينة التي يسكنون فيها، بحيث تسمح لهم بالتجول دون استعمال الخرائط أو نظام تحديد المواقع الجغرافية، كرديف أساسي للشعور بالـ «Home». الفارق الكبير في المقياس بين الحصول على سرير أو سرير(ي)، وبين الحصول على مدينة أو مدين(تي) كان شرطاً أساسياً للإحساس بالـ «Home»، ما يطرح أيضاً إشكالية عدم اعتيادنا على مدن جديدة نحاول جاهدين التأقلم معها.

ومن بين المصطلحات التي طُرحت ضمن نقاشاتنا، كان لمصطلحيّ السكون و الاستقرار الحضور الأكبر. مشاعر يفتقدها معظم السوريين، سواء الذين ما زالوا في بيوتهم أو الذين رحلوا عنها لبيوت أخرى. فسّره البعض بغياب اجتماع العائلة مكانياً على طاولة طعام واحدة أحياناً. قد لا يبدو مفاجئاً لنا كسوريين ارتباط الشعور ببيتنا الـ «Home» بأصالة الطعام المُحضّر. فطاولة الطعام بأشكالها المختلفة تشكّل عنصراً مادياً رمزياً لدى أغلب السوريين، على اختلاف انتماءاتهم المدينية والريفية، وتعد رمز الترحيب وإضفاء نكهة جديدة في العلاقة مع الضيف الغريب الحاضر في البيت، من خلال «كسر السفرة» أحياناً. وهي اليوم سفير أساسي للثقافة السورية، ومدخل بدأ يتقنه أغلب المغتربين لقلوب المجتمعات الجديدة.

image3.jpg

البيت السوري أو الـ «Home» يمكن أن يُفهم على أنه تجربة مشتركة بين السوريين، يُعبَّر عنها فردياً من خلال مجموعة من الرموز لا يمكن أن تفسر إلا بسياق سوري، مفهوم مختلف مرتبط بخصوصية العائلة ورقابة المجتمع في آن واحد، مفهوم مرتبط بالطعام والأماكن المطلوبة لتحضيره، مفهوم مرتبط بذكريات ناتجة عن أحداث مشتركة. فالبيت السوري كمفهوم هو منتج مجتمعي يعكس حالات ثقافية مختلفة مرتبطة بزمان ومكان وحدث، ولكنه في نفس الوقت يعكس من خلال عناصره المادية ردة فعل الفرد، وطريقته المختارة في التعبير عن هذه الأحداث في خصوصية بيته.

والتحدي الذي يواجهه معظم سوريّو الشتات اليوم هو: أي الحالات الثقافية يريدون أن يعكسوها في بيوتهم الأوروبية الجديدة؟ هل هي حالات مستقاة من واقع جديد مُعاش يصعب فهم كل حيثياته؟ أم عليهم الاستعانة بذاكرتهم لعكس تكوين ثقافي قديم في جغرافية جديدة؟ التحدي ذاته سيتكرر مستقبلاً فيما لو عاد كثير من هؤلاء السوريين الى سوريا، ليعكسوا حالات ثقافية جديدة تم بناؤها خلال سنوات الترحال. وعلى الأغلب، فإن الكثير من التجارب ستُدخِل طابعاً جديداً على نقاش مفهوم البيت السوري المستقبلي في سوريا أيضاً.

image-4-1024x683.jpg

ما أجمع عليه الجميع خلال الورشة هو كمّ العواطف والذكريات المرتبطة بالمكان، متجاهلين تماماً الظروف المكانية للدار أو المسكن، فلا أحد يذكر رداءة الطريق أو برد الشتاء وغياب وسائل التدفئة أو حتى ضيق المساحة. لكن الجميع يرى انتماءه للمكان بما يحمل من ذكريات، فبيت السوري هو حيث ولد فلان، وحيث خطى الخطوة الأولى، وحيث القبلة الأولى، وهو حيث ينام الأخوة في غرفة واحدة متذمرين حالمين بمنزل آخر يسمح لكل منهم بالحصول على غرفته الخاصة، وحيث تجتمع العائلة رغم تذمر معظم أفرادها من الاجتماع، وإصرار الوالدة أو الوالد على أن يحضر الجميع، هو أيضاً حيث يسكن جارنا فلان وجارتنا فلانة التي كانت تسترق النظر من العين الساحرة عند عودتنا متأخرين لتؤكد على رقابتها الاجتماعية، وعينها الساهرة التي لا تنام. رومانسية السرد الحالي طغت على تفاصيل يومية كانت لوقت قريب تضيق بساكني أغلب تلك البيوت، وتدفعهم دوماً لانتظار بيوت أُخرى أوسع وأجمل وأكثر استقلالاً ودفئاً.

نشرت هذه المقالة في موقع النبض بتاريخ ١٣.١١.٢٠١٧

 

bottom of page